الفصل الأوّل من رواية الشوفير | محمد الجراي
مقدمة
تجد هنا الفصل الأوّل من رواية الشوفير للمؤلف محمد الجراي.
قبل أن تبدأ القراءة
تابعني لتتواصل معي ويصلك كل جديد
وطبعا! لا تنس التقييم والنقد
الفصل الـأوّل
مجدي
أنا لا أشعر بشيءٍ. هل تحقّقت أمنيتي أخيرا، وتخلّصت من حياتي البائسة؟…
إنني ملقى على الأرض. وأحدُهما يحتضنُني ويبدو أنه يقول… بل تقول شيئا.
…إنها ريم! بشعرها الأسود الداكن والقصير – بعد أن قررت تقصيره بمساعدة من أسيل – والّذي أبرز وجهها النحيف، وأنفها الدقيق، وملامحها الباهتة، الّتي ينعكس عليها ضوء خافت يومض كضوء الشموع من مكان ما. كلٌّ مِنْ لوني شعرها وبشرتها يُبرز الآخر. لم يسبق لي أن تمعنت في تفاصيل وجهها هَكذا.. كنت أنظر وأعُجب فقط بعينيها.
عيناها… نعم عيناها العسليتان… تذكرانني بتلك الأيّام الحلوة…
… إنّني ملقى على الأرض. هل أنا ميّت أم أموت بين ذراعيها؟
كيف أموت الآن؟ لا أستطيع أن أموت الآن. كيف أموت قبل أن أخبرها…
تغيير مفاجئ
ريم
-«أظن أنّه ذاك الّذي يرتدي قميصا أزرقا؟»
لم أفهم من تقصد، ساندرا.
-«من؟»
-«ملاكك الحارس!!!»
-«أ مازلت تبحثين عنه؟ إنك تطاردين وهما.»
-«إنّني متأكّدة من أنّهم عينوا أحدا ما ليحرسك داخل الحرم. وأفضل طريقة لذلك هي؛ أن يجعلوه يدرس معنا. انظري إلى بنيته. كما إنّه دائما يقف قريبا منك ولا يدعك تغادرين مجال رؤيته.»
بسخرية أغنّي:
-«يكتشف الغامض والمثير…يستنتج بالعقل الكثير…»
-«واصلي في سخريتك. إن لم أجد لك أحدا، ستمضين بقية حياتك وحيدة.»
-«هل تظنين أني يجب أن أكلّمه؟»
-«نعم!!! لا أصدق أنك اقترحت ذلك!!»
-«… وأتسبب في إعفائه من مهمته هذه.»
تنظر لي ساندرا بخيبة.. لقد ظنّت للحظة أنني أخذت الأمر بجدية.
مثل كلِّ يوم من أيّام أسابيع الدّراسة المضنية والمملّة، عدا غدٍ الأحد، أُوَدِّع سانْدرا، صديقة عمري، ورفيقتي في الدّراسة، وأغادر مجموعة الطّلبة الخارجين من بوّابة الجامعة، لأتّجه نحو السيّارات الثّلاث، أعلى التل على جانب الطريق.
كم أكره هذه اللّحظة من كلّ يوم! حين ينظر الجميع، معجب بعضهم، وبعضهم الآخر ممّن أشاركهم الرّأي يرى في ذلك فخفخة بلا داعٍ، إلى ريم الرّوميابنة رئيس الجمهورية، أحمد الرّومي، وهي تتّجه إلى سيّاراتها السوداء الفِخَام وحرّاسها الأربعة وسائقها الوفي، عمر الصاين، الّذي لم يتخلّف يوما أو حتّى يتأخّر بدقيقة عن موعد خروجها.. بوقفته الثّابتة وهو يضمّ يديه المغلّفتين بقفازين أبيضين، إذ يبدو كأنّه يثبّت الأرض بقدميه.. وبِقبّعته الدائرية المتناسق لونها مع بذلته السوداء الأنيقة ذات الأزرار الذهبية. قد يَظُنُّ من لا يعرفه أنّه يأتي كلّ يوم ببذلة وسيّارات جُدُدٍ، لشِدّة حرصه وحِفاظه على حُسن ونظافة مظهره ومظهر السيّارات والحرّاس الّذين معَه. هذا أكثر ما يميّز شركته المختصّة في نقل الأشخاص. ثم إِنَّه، دون كلّ ذلك، لديه من الوقار والرّصانة هالة تحيطه تجعل من حوله يحترمه. لم أفهم يوما مصدرها أو كيف يحافظ عليها طيلة الوقت. فربّما تكون لخلفِيَّته في احتراف فنون القتال، أو لتقدّمه في السّن.. أو ربّما هي موهِبة لدى البعض دون غيرهم.
يستقبلني عُمر قرب الباب الخلفيّ للسيّارة. نتبادل التحيّة، ثم أصعد وننطلق عائدين نحو القصر الرّئاسي.
على غير العادة، يبدو عُمر اليومَ واجما. لكنّه يحاول أن يخفي ذلك ويسألني عن حالي وعن حال الدّراسة، كما يفعل دائما، محاولا أن يطمئنني ويشجعّني. إنّه، بعد ساندرا، صديقي المفضّل. يعرفني جيدا وربما أكثر منها في بعض الأمور العائلية. هو الوحيد الّذي أشعر بالِارتياح للكلام معه عن والدي الّذي هو في الأصل صديقه.
يسألني عمر سؤالا غريبا:
-«هل تتذكرين أوّلَ يوم أوصلتك فيه؟»
-«نعم! أتذكّر قليلا منه، لقد كان يوما صعبا على الجميع.»
نبتسم ضاحِكيْن، متذكِّرَيْن ذلك اليوم العصيب. لقد كان أوّل يومٍ لي في المدرسة الابتدائية. وأوّل يوم يوصلني فيه عمر، صديق والدي والعائلة. كان عُمر قد أَنشأ شركته حديثا. فطلب منه والدي أن يتولّى توصيلي للمدرسة يوميّا. وكنّا بذلك أوّل حرفاءٍ لديه. ولمّا أتى عمر في ذلك اليوم رفضت رفضا قاطعا التخلّي عن ألعابي والذهاب للمدرسة.
يعود عمر لصمته الغريب متمعّنا في الطريق كأنّه يمرّ منه أول مرّة.. الصّمت الّذي بدأت أتوجّس منه أمرا غير سارٍّ يكتمه، أو يريد أن يفصح عنه، لكنّه متردّد.
لم أعد أتمالك نفسي! فأسأله.
يسكت للحظات، ثم يقول:
-«لديّ أمر أريد إخبارك به!»
كما توقّعت: هناك أمرٌ غير سارّ.
-«خيرا إن شاء الله»
يتكلّم عمر، متنهّدا، كمن يزيح ثقلا عن صدره:
-«لقد كنت أفكر بهذا الأمر منذ مدّة طويلة. تعلمين أنني تجاوزتُ الستّين سنة ولم أعد كسابق عهدي. وقد توصّلت إلى قرارٍ نهائيٍّ مع زينب زوجتي. لقد قرّرت التقاعد عن القيادة والرحيل لمنزلنا في المزرعة القديمة لأمضي تقاعدي في هدوء.»
تنتابني الصدمة، كأن كل شيء توقّف من حولي … ثمّ تعصف دوّامة من الأسئلة داخل رأسي:
ماذا يقصد بذلك؟
هل يقصد أن هذا آخر يوم له في توصيلي؟
لم أعلم ماذا أقول، لكن عليّ أن أفهم ماذا يقصد.
ألفظ الأسئلة دُفعة واحدة:
-«لِماذا تريد التوقف عن القيادة؟ ماذا تقصد بالتوقف عن القيادة؟ هل تقصد التوقف اليوم؟»
يأخذ نفسا آخر ليجيب:
-«نعم، أقصد التوقف نهائيا عن العمل اليوم. وترك الشركة للجيل الجديد.»
نعم! لقد كان يقصد ذلك.
ماذا علَيّ أن أقول لأقنعه بالتراجع عن قراره؟
لا أعلم ماذا يجب أن أقول! لكنّني أتكلم بما يخطر لي أوّلا، على أمَلِ أن أقنعه:
-«ألَا يُمكنك تأخير هذا لبضعة أشهر حتى أُنهي هذه السنة على الأقل؟»
لماذا أترجّاه؟ لقد حسم قراره منذ مدّة دون أن يحسب لي أي حساب.
-«أنا آسف، لكنّني لا أستطيع. لقد كنت أخطّط لهذا اليومِ منذ وقت طويل، ولم أجد في نفسي كيف أخبرك بالأمر قبل اليوم. أنا آسف لذلك.»
أشعر بحزن بدأ ينمو ويشتدّ داخلي.. ثم تحوّل لِعَبْرَةٍ تريد أن تفيض. لكنَّني أمسكها وأحتفظ بها لخلوتي، كما أفعل دائما. لن أكون محل شفقة لأحد.
أحافظ على سكوتي، وأتنفّس بعمق خوفا من ألّا أستطيع السيطرة على مشاعري وأنفجِر بالبكاء. يحاول عمر ترطيب الجوّ بعد تعكيره:
-«إنني لن أذهب بعيدا، أو أسافر إلى مكان لا نستطيع منه التواصل. سنبقى على اِتصال. وسآتي لأزوركم دائما.»
أجيب بهَمْهمة توهِم بالموافقة، حتى لا أتكلّم وأفقد السيطرة.
نصِل للقصر وننحى ناحية الجناح العائليّ المخصّص لعائلة الرئيس. والتي كلُّ من فيها: أنا ووالدي. وفي معظم الأحيان، أكون لوحدي.
نجد في انتظارنا أمام المنزل والدي مع مجموعة من العاملين بالقصر، ورئيس الحكومة، مخلص، الّذي لا أطيقه ولا يطيقني. لمَ هو، دائما، ملتصق بوالدي ويحضر كلّ حدث مهمّ؟ وكلما التقينا شَزَرَ لي دون سبب؟
لقد كان يعلم! لقد كان يعلم أن اليومَ هو الأخير لعمر في القيادة. بالطبع يعلم! فهما صديقان مقرَّبان. لا بد أنه أخبره منذ بدأ بالتفكير في الموضوع. ولَمْ يفكّر هو الآخر في أن يُخْبرني، كأن الأمر لا يهمني ولا بأس في أن أكونَ آخِر من يعلم في آخر لحظة.
تتوقف السيّارات أمام المنزل. فأنزِل مُسرعة، وأصعد الدرج، دون أن أنظر لأحدٍ. لكنّني أُحِسّ بالذنب. فأعود وأعانق عمر دون أن أتكلم. ثمّ أصعد وأدخل المنزل، فَغرفتي، لأطلق العنان لنفسي.
اضغط هنا لتقرأها كاملة مجانا
رواية الشوفير أيضا على أمازون:
إذا كنت تفضّل القراءة على أمازون كيندل،
أو تريد دعم المؤلّف
تابع هذا الرّابط